عن الشاعر
ولد اوفيد في العام الثالث والاربعين قبل ميلاد المسيح في مدينة سولومنا المدينة الحالمة الواقعة على بعد حوالي مائة ميل من روما. وعندما نسمع بعام مولده فاننا نتذكر على الفور انه نفس العام الذي توفي فيه الخطيب والقانوني شيشرون صاحب الدور المؤثر في قضية كاتالينا.
ورحل اوفيد الى روما حيث ارسله والده اليها ليدرس الأدب والخطابة والقانون والشعر. وقرأ هناك ادب قدامى اليونان، وبدأت ملامح فلسفته في التبلور في العشرين من عمره، خاصة نظرته الى الاساطير واكتشافه العلاقة العميقة بين الشعر والاسطورة وتلازمهما.
وعلى الرغم من ان اول كتاب صدر لاوفيد هو «البطلات» الا ان قصائد الغزل التي نشرت بعد نشر هذا الكتاب كان قد شدا بها بين محبي الادب بصور متفرقة قبل ان يجمعها في كتاب. وقصائد الغزل هذه هي اللوحات التي استوحاها من حياة بوهيمية عاشها في روما، ومن قصة حب حقيقية بطلتها فاتنة من غانيات روما لم يعرف اسمها على التحديد بعد وقد سماها اوفيد باسم مستعار هو كورينا.
وقد اندفع شاعرنا في عالم المتعة وكانت حجته انه لا يمكن ان يكون في روما بعيدا عن الملذات كما قال في احدى قصائد «الغزليات»:
«أرأيت ياصديقي.. لو ان هيبوليت ابن ثيسيوس يعيش في روما معنا.. فانه اكيد تحوله الى بريابوس».
وهيوليت هو شاب عفيف دعته فيدر زوجة ثيسيوس ابيه فامتنع عليها لحبه للعفاف والطهارة. وقد تناول هيبوليت الاديب الفرنسي راسين في رائعته فيدر، أما بريابوس فهو شاب ماجن داعر.
وفي اثناء انشاده هذه القصائد الغزلية في مجالس اللهو اصدر كتابه الاول «البطلات» وكان تأثير الاسطورة اليونانية فيه واضحا جليا وكان التزاوج بين المخزون الثقافي والابداع الشخصي قد بدأ يشكل في الوقت نفسه سمة ثابتة من نتاج المبدع اوفيد.
لم يكتب اوفيد التراث كما قرأه في «البطلات»، بل تخيل في كل فصل من الفصول ان بطلة من البطلات قد ارسلت رسالة الى احدهم. فهناك رسالة كتبها اوفيد على لسان بنيلوب الوفية لاوديس ورسالة من فيدر الى الشاب الذي قتلها حبا وهو هيبوليت بن ثيسيوس. ومن محتويات الكتاب رسالة من ديانيرا الى هرقل ورسالة من هيلانة فاتنة الاغريق الى باريس الامير الطروادي ورسالة من هيرو الى لياندر. ويفتتن مجتمع روما بهذه الرسائل ويستعيرها بعض العشاق في رسائلهم، بل ويبلغ الامر بشاب مغمور من محبي الادب كتابة كتاب صغير يحتوي على ردود الرجال على رسائل النساء التي كتبها اوفيد.
وتبتسم الايام لاوفيد ويصبح اسمه على كل لسان ويجاهر باختلافه في الاسلوب الشعري مع فرجيل صاحب الانيادة ويرى في نفسه «وترا جديدا في القيثارة الرومانية» ويبدع رائعتيه «في الهوى» وهو كتاب يحتوي على ثلاثة اجزاء اما الجزءان الاول والثاني فيتناولان وجهة نظر الرجال وفي الجزء الثالث يعرض رأي النساء. يقول اوفيد في احدى القصائد ـ والديوان مترجم الى العربية ـ:
الجمال ميزة هشة ما اسرع ما تجفو مع الايام ويأتي عليها تعاقب السنين فالبنفسج لا يزدهر الى الابد والزنبق لا يفتر بالبسمة دوما والوردة اذ تذبل تخلف ابر الشوك.
وعما قريب ايها الشاب الوسيم يكسو الشعر الاشهب رأسك بعدما يحفر الدهر اخاديده على بشرتك اذاً فابدع لنفسك روحا مشوقة صنوا لجمالك فهي وحدها تبقى بجوارك حتى ساعتك الاخيرة فوق المحرقة واصقل فكرك بالفنون والاداب ولا تهون من شأنهما».
والف بعد «في الهوى» «علاج الهوى» ولو وقف انتاج اوفيد عند هذا الحد لما وقف بجانب هوميروس ودانتي وشكسبير وفرجيل. ولكن اوفيد صمم ان يقف على قمة شاهقة من قمم الخلود فبدأ تأليف رائعته «التناسخات» الذي يحتفل العالم الادبي هذه الايام بمرور الفي عام على صدروها. لقد نظم اوفيد اساطير اليونان شعرا رائعا ظل الناس يجدون فيه الجدة في كل قرن من القرون. نظم شعرا رائعا بعيدا عن السردية. وقد اثرت التناسخات في ادب كل امة. فنقلها الى الانجليزية درايدن وصاغها قصصا منثورة اديب الطليان بوكاشيو ونقل جزءا منها نثرا بديعا دريني خشبة في الاربعينات من القرن العشرين.
نظم اوفيد قصائد التناسخات من امثال برسيوس واندروميدا وديدالوس وايكاروس وقصيدة اورفيوس ويوريدس وغرام اتلانتا الفاتنة التي سميت باسمها احدى الولايات المتحدة الاميركية وغيرها. وفي اثناء عمله في التناسخات شهدت العاصمة الرومانية روما حفلا بهيجا حيث شهد جمع غفير ضم في ما ضم الامبراطور اغسطس وماسينياس وفرجيل زواج اوفيد.
وتابع اوفيد عمله واصدر التناسخات واحس الشاعر انه يكتب اعظم نتاجه فكتب في آخر التناسخات:
سأعيش الى آخر الدهر وبعد فترة من صدور التناسخات فوجئت الجمهورية الرومانية بأمر من الزعيم اغسطس ينفي اوفيد من روما الى شمال البحر الاسود. ولن نتحدث الان عن سبب القرار ولعله من اسرار التاريخ. والتفصيل في الموضوع يحتاج الى بحث خاص. فيرى البعض ان الامر يتعلق بعلاقة اوفيد مع حفيدة اغسطس اما نص القرار فقد اشار الى لا اخلاقية اشعاره وآثارها السيئة مع ان اغسطس لم يتخذ قرارا مماثلا في شاعره المفضل فرجيل والذي يعلم اغسطس كثيرا من شؤونه.
وكان تأثير القرار على اوفيد شديداً فاحرق النسخة الاصلية من كتاب التناسخات وما وصلنا هي نسخة منسوخة من النص الاصلي وبقي اوفيد شمال البحر الاسود حزينا يرسل القصيدة تلو القصيدة مذكرة قراء الادب بقصائد البطل العربي المقدام ابي فراس الحمداني حين أسر على يد الروم فأرسل قصائده الروميات.
ولم يمنع الامبراطور اغسطس شعر اوفيد بل تركه بين ايدي القراء في روما وكان اغسطس يقرأه دون ان يرق قلبه فيأمر بالرجوع عن قرار النفي.
ويموت اغسطس ويقوم بأمر الامبراطورية من بعده ابن زوجته تبريوس. ويصل الخبر الى الزعيم الجديد ان اوفيد قد توفي وسكنت القيثارة الخالدة التي ينسى قراء الادب صوتها المخملي الرائع.
ويرق قلب تبريوس فيأمر برجوع جثمان اوفيد ويحتفل الشعب بدفن الشاعر القدير غير بعيد عن عاصمة الرومان
بقلم: د. طاهر تونسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق